سورة المؤمنون - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)} [المؤمنون: 23/ 99- 104].
«حتى» ابتداء كلام وإخبار عن حال جديدة: هي حال المحتضر عند الموت من عصاة المؤمنين والكافرين الجاحدين. والمعنى: إذا دنا أجل الإنسان الكافر أو العاصي المفرط في حقوق الله تعالى، ورأى ما ينتظره من العذاب، طلب الرجوع إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، ويتدارك ما فاته من خير، وما قصّر فيه من الأعمال الصالحة.
فيأتيه الردع والزجر من الله بكلمة «كلا» أي لا إجابة لطلبه، وتلك كلمة لابد من أن يقولها كل محتضر، تعبيرا عن الندم، لأنه لا فائدة من الرجعة، فلو ردّ لعاد لما كان عليه، وكذب في هذه المقالة، كما جاء في آية أخرى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [الأنعام: 6/ 28] ويكون أمام هؤلاء الظلمة برزخ، أي حاجز مانع ما بين الدنيا والآخرة، يمنع من العودة إلى عالم الدنيا. وهذا تهديد ووعيد بعذاب البرزخ، والمراد من البرزخ، هنا بإجماع المفسرين: المدة التي بين موت الإنسان وبين بعثه، وجملة {إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} إشارة إلى أن المحتضر لو ردّ لعاد، فتكون الآية آية ذمّ لهم.
وإذا نفخ في الصور (القرن الهائل) النفخة الثانية، وهي نفخة النشور، وقام الناس من القبور، فلا تنفعهم الأنساب والأحساب والقرابات، على الرغم من وجود التعاطف والتراحم والنسب، لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، ولا يتمكن القريب أو الصديق من سؤال قريبه أو صديقه، وهو يبصره. لأن هول المطلع يشغل كل امرئ بنفسه، فلا أنساب نافعة، وإنما النافع: هو العمل الصالح.
وميزان الحساب واضح، فمن رجحت حسناته على سيئاته، ولو بحسنة واحدة، فأولئك الذين فازوا بالمطلوب، فنجوا من النار، وأدخلوا الجنة. ومن ثقلت سيئاته، وطغت على حسناته، فأولئك الذين خابوا وهلكوا، وباءوا بالخسران، بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وكان عذابهم ذا صفات ثلاث:
إنهم في جهنم ماكثون على الدوام، مقيمون فيها إلى الأبد، وهذا دليل تخليد الكفار في النار، وتحرق النار وجوههم، وتأكل لحومهم وجلودهم، وهم في النار عابسون، متقلصو الشفاه عن الأسنان. والموازين: هي الأعمال، ومعنى الوزن:
إقامة الحجة على الناس بالمحسوس على حسب عادتهم وعرفهم، ولفح النار: إصابة الوجوه بالوهج والإحراق. والكلح: انكشاف الشفتين عن الأسنان، وهذا يعتري الإنسان عند المباطشة وعند الغضب.
إن تصوير العذاب بهذه الصورة الشنيعة للجاحدين الكافرين تقشعر منه الأبدان، وتضطرب له فرائص الإنسان، ويرهبه كل امرئ مهما كان، ولو من الجبابرة العتاة، لأن مثل هذا العذاب لا يضارعه أي عذاب في الدنيا مهما اشتد وقسا، ومهما عظم وامتد. فهل من متعظ معتبر، وخاشع يتدبر الأمر قبل وقوعه؟!.
تقريع أهل النار على كفرهم:
لا يقتصر حال أهل النار على العذاب الشديد المؤلم، وإنما يقرّعون ويوبخون على كفرهم ومآثمهم، وتراهم إذا سمعوا هذا التقريع، أذعنوا، وأقروا على أنفسهم، فيدعون ربهم بأن يخرجهم من النار، فلا يجابون لدعائهم، فيقعون في اليأس والإحباط، ويتلخص أمرهم في أنهم سخروا من أهل الإيمان، وابتعدوا عن تذكير القرآن، فوقعوا في حمأة العذاب، وفاز المؤمنون الأتقياء بجنان الخلد ورضوان الله، وجوزوا على صبرهم على الطاعة، والبعد عن المعصية، وهذا ما وصفه لنا القرآن الكريم قبل أن يقع تماما على هذا النحو في الآيات التالية:


{أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)} [المؤمنون: 23/ 105- 111].
في مطلع هذه الآيات محذوف تقديره: يقال لأهل النار: ألم تكن آياتي أي آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا، للتذكير والاتعاظ، فتكذبون بها، وتعرضون عنها؟! وهذا استفهام تقرير وتوبيخ لهم. والمعنى: قرّوا بهذا واعترفوا، فهو أمر واضح، لا ينكره أحد.
فكان جوابهم بقولهم: يا ربنا غلب علينا شقاء أنفسنا بشهواتنا وملذاتنا، بحيث صارت مؤدية إلى سوء العاقبة، وأخطأنا طريق الحق والهدى، وكنا من القوم الضالين. ثم تدرّجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع. فقالوا: يا ربنا أخرجنا من عذاب النار، وردّنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما كنا عليه، فنحن ظالمون، نستوجب العقوبة.
فأجيبوا بحسب ما تحتم عليهم من العذاب وبحسب علم عز وجل: امكثوا في النار، خاسئين أذلاء صاغرين، واسكتوا ولا تطلبوا مثل هذا الطلب، فإنه لا رجعة إلى الدنيا. وقوله تعالى: {وَلا تُكَلِّمُونِ} بلفظ نهي، وهم لا يستطيعون الكلام، على ما روي، فهذا مبالغة في المنع. ويقال: إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا.
ثم أخبر الله تعالى عن سبب عذابهم بما يفيد بأنه كان جماعة من عبادي المؤمنين يقولون: يا ربّنا صدّقنا بك وبرسلك، وبما جاؤوا به من عندك، فاستر ذنوبنا، وارحم ضعفنا، فأنت خير الراحمين.
فما كان منكم إلا أن سخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي، حتى حملكم بغضهم والهزء بهم على نسيان ما ذكّرتكم به مما ينفعكم، ولم تلتفتوا لمقتضى التذكرة، ولم تخافوا العقاب، وكنتم تضحكون استهزاء من صنيعهم وعبادتهم، كما جاء في آية أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30)} [المطففين: 83/ 29- 30]. أي يلمزونهم استهزاء. والفريق المشار إليه ممن هزئوا به:
كل مستضعف من المؤمنين، وقد نزلت الآية في كفار قريش الذين كانوا يهزؤون بصهيب وعمار وبلال رضي الله عنهم ونظرائهم. ولكنها عامة فيمن جرى مجراهم قديما، وبقية الدهر.
ثم أخبر الله تعالى عما جازى به عباده الصالحين بأنه جازاهم في يوم القيامة بسبب صبرهم على أذى الكفار واستهزائهم بهم، وكان الجزاء هو الفوز بالسعادة والسلامة، والنعيم المقيم في الجنة، والنجاة من النار، كما جاء في آية أخرى وهي: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 83/ 34- 36].
والجزاء المعطى للمؤمنين: هو الجنة والرضوان الإلهي، والفائزون: هم المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى الفوز: النجاة من هلكة إلى نعمة.
تتبين عظمة القرآن، وأفضال الله ونعمه: في أن الحق سبحانه وتعالى بيّن لعباده سلفا في هذه الدنيا، كل ما يلاقون في عالم الغيبيات، ومصير كل فريق: إما في الجنة وإما في النار.
عمر الدنيا قصير:
مهما طال العمر بالإنسان، فإن عمر الإنسان قصير، بل وعمر الدنيا كلها قصير، وذلك رحمة من الله بعباده، لأن الدنيا دار امتحان واختبار، ودار تكليف ومسئولية، والمسؤولية تقتضي التخفيف وعدم الإطالة، فكما زاد العمر ثقلت المسؤولية، فكان من الرحمة أن يقصّر الأجل منعا من تزاحم المسؤوليات وإطالتها، لذلك اقترن الإخبار عن قصر الدنيا بالتذكير بالمسؤولية فيها، وأنها ليست دار العبث واللهو، وإنما هي جسر للآخرة التي يكون فيها الحساب، والمحاسب: هو الله صاحب العزة المطلقة، والملك الحق، وذو السلطان الأكبر، وهو رب العرش الكريم، فكيف يصح لعاقل عبادة غير الله؟ ومن عبد إلها غير الله خاب وخسر، ومن عبد الله وحده لا شريك له فاز ونجا، قال الله تعالى مبينا هذه المعاني والمبادئ:


{قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} [المؤمنون: 23/ 112- 118].
ينبّه الله تعالى في هذه الآيات على أمور ثلاثة: قصر العمر في الدنيا، وإناطة التكليف والمسؤولية فيها بعنق الإنسان. وإفراد الحساب بالله عز وجل.
أما الأمر الأول: فيسأل الله الكافرين والمقصرين سؤال تقريع وتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا؟ فأجابوا لعظم الأهوال وشدة العذاب: مكثنا يوما أو بعض يوم، فاسأل الحاسبين وهم الملائكة، والمراد توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة، لكن الكفر في الدنيا أداهم إلى عذاب طويل.
فأجاب أحد الملائكة الحفظة: ما مكثتم إلا زمنا يسيرا، على أي تقدير، سواء كان المكث في الدنيا أو في القبور، وذلك بالنسبة إلى العذاب الطويل في الآخرة، ولكنكم كنتم لا تعلمون الحقيقة، ولو علمتم فعلا بها لعملتم بما يرضي ربكم. ثم لبيان الأمر الثاني وهو التذكير بالتكاليف، وبخهم الله على غفلتهم، بما مفادة:
أظننتم أنما خلقناكم عبثا، أي لعبا وباطلا، بلا قصد كريم، ولا غاية معينة؟! وهل ظننتم أنكم لا تعودون إلينا في الآخرة للحساب والجزاء؟! وهذا هو الأمر الثالث الدال على تفرد الله بالحساب. لقد تنزه الله صاحب الملك الواسع، الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، أن يخلق شيئا عبثا، فإنه سبحانه الملك الحق المنزه عن ذلك، وهو ذو العرش العظيم البهي، الشامل في تدبيره نظام الكون الرحيب.
ثم توعد الله جلت قدرته عبدة الأوثان: بأنه من يعبد إلها آخر مع الله دون حجة ولا دليل، فحسابه عند الله، إنه لا يفوز الكفار بشيء من النعيم وإنما مصيرهم إلى الجحيم، وهذا تأكيد أن الكافر لا يبلغ أمنيته، ولا ينجح سعيه.
وقل أيها النبي الرسول: يا رب اغفر لي ذنوبي واستر عيوبي، وارحمني بقبول توبتي، ونجّني من العذاب الأليم، فإنك صاحب المغفرة الشاملة والرحمة الواسعة.
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء بالمغفرة والرحمة وذكر الله بأنه أرحم الراحمين: تعليم لأمته، وإرشاد إلى أن الرحمة الحقيقية والشاملة إنما هي لله سبحانه، وما رحمة كل راحم بغيره إلا جزء من مائة من رحمة الله تعالى، فإن الله تعالى أنزل ووزّع في العالم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعة وتسعين.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلّهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب، لم يأمن من النار».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7